تفسير الاية 6 من سورة الاسراء
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }
يقول تعالـى ذكره لبنـي إسرائيـل فـيـما قضى إلـيهم فـي التوراة: { إنْ أحْسَنْتُـمْ } يا بنـي إسرائيـل، فأطعتـم الله وأصلـحتـم أمركم، ولزمتـم أمره ونهيه { أحْسنْتُـمْ } وفعلتـم ما فعلتـم من ذلك { لأَنْفُسِكُمْ } لأنَّكم إنـما تنفعون بفعلكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم فـي الدنـيا والآخرة. أما فـي الدنـيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءاً، وينـمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلـى قوّتكم قوّة. وأما فـي الآخرة فإن الله تعالـى يثـيبكم به جنانه { وإنْ أسأْتُـمْ } يقول: وإن عصيتـم الله وركبتـم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلـى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك علـى أنفسكم ربكم، فـيسلط علـيكم فـي الدنـيا عدوّكم، ويـمكِّن منكم من بغاكم سوءا، ويخـلدكم فـي الآخرة فـي العذاب الـمهين. وقال جلّ ثناؤه { وَإنْ أسأْتُـمْ فلها } والـمعنى: فإلـيها كما قال
{ بأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها }
والـمعنى: أوحى إلـيها.
وقوله: { فإذَا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } يقول: فإذا جاء وعد الـمرّة الآخرة من مرّتـي إفسادكم يا بنـي إسرائيـل فـي الأرض { لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } يقول: لـيسوء مـجيء ذلك الوعد للـمرّة الآخرة وجوهكم فـيقبِّحها.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { لِـيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة { لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } بـمعنى: لـيسوء العبـاد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله علـيكم وجوهكم، واستشهد قارئوا ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله { وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ } وقالوا: ذلك خبر عن الـجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله { لِـيَسُوءُوا }. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة: «لِـيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى التوحيد وبـالـياء. وقد يحتـمل ذلك وجهين من التأويـل أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: لـيسوء الله وجوهكم. فمن وجَّه تأويـل ذلك إلـى لـيسوء مـجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله «فإذا» مـحذوفـاً، وقد استغنـي بـما ظهر عنه، وذلك الـمـحذوف «جاء»، فـيكون الكلام تأويـله: فإذا جاء وعد الآخرة لـيسوء وجوهكم جاء. ومن وجَّهَ تأويـله إلـى: لـيسوء الله وجوهكم، كان أيضا فـي الكلام مـحذوف، قد استغنـي هنا عنه بـما قد ظهر منه، غير أن ذلك الـمـحذوف سوى «جاء»، فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم لـيسوء الله وجوهكم، فـيكون الـمضمر بعثناهم، وذلك جواب «إذا» حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربـية من الكوفـيـين: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى وجه الـخبر من الله تبـارك وتعالـى اسمه عن نفسه.
وكان مـجيء وعد الـمرّة الآخرة عند قتلهم يحيى. ذكر الرواية بذلك، والـخبر عما جاءهم من عند الله حينئذٍ كما:
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ فـي الـحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلاً من بنـي إسرائيـل رأى فـي النوم أن خراب بـيت الـمقدس وهلاك بنـي إسرائيـل علـى يدي غلام يتـيـم ابن أرملة من أهل بـابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتـى نزل علـى أمه وهو يحتطب، فلـما جاء وعلـى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد فـي جانب البـيت فضمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر لنا بها طعاماً وشرابـاً، فـاشترى بدرهم لـحماً وبدرهم خبزاً وبدرهم خمراً، فأكلوا وشربوا حتـى إذا كان الـيوم الثانـي فعل به ذلك، حتـى إذا كان الـيوم الثالث فعل ذلك، ثم قال له: إنـي أُحبّ أن تكتب لـي أماناً إن أنت ملكت يوماً من الدهر، فقال: أتسخر بـي؟ فقال: إنـي لا أسخر بك، ولكن ما علـيك أن تتـخذ بها عندي يدا، فكلـمته أمه، فقالت: وما علـيك إن كان ذلك وإلاَّ لـم ينقصك شيئاً، فكتب له أماناً، فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بـينـي وبـينك، فـاجعل لـي آية تعرفنـي بها قال: ترفع صحيفتك علـى قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه.
قال: فردّ الله لهم الكرّة علـيهم، كما قال قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لـما نهوا عنه، فبعث علـيهم فـي الـمرّة الآخرة بختنصر، فقتل الـمقاتلة، وسبى الذرّية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخـلوا بـيت الـمقدس، كما قال الله عزّ وجلّ: { وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وَلـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } دخـلوه فتبَّروه وخرّبوه وألقوا فـيه ما استطاعوا من العذرة والـحيض والـجيف والقذر، فقال الله { عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا } فرحمهم فردّ إلـيهم ملكهم وخـلص من كان فـي أيديهم من ذرّية بنـي إسرائيـل، وقال لهم: إن عدتـم عدنا.
والله اعلم