السماء صافية و النجوم تتلألأ بها كأنها لآلئ حسان، أضاء عليها ضوء القمر فبهرت الأبصار،و النسيم العليل يهب فيلثم صفحة جدول،تراقصت فيه أنوار لمعت من السماء، و بينها سطع نور أتى و أضاء، فرأيت بين هذه المناظر
قصة،رسمت خطوطها من ضياء المحبة، و ختمت خواتيمها بنور البدر في الليل البهيم.
هي قصة فتاة صغيرة، نشأت في قرية مليئة بالمحبة و الوئام، حافلة بالذكريات و الدمعات، طاردة للأوهام.
في يوم من أيام الربيع الدافئ، وكعادتها استيقظت رؤى واتجهت نافذة غرفتها لترى السماء وتتأمل الغيوم البيضاء، لقد كان الجو يومها صافيا ولا يوجد في السماء غير غييمة تبدو لمن يراها لأول مرة أنها قطعة قطن طافية في بحر أزرق واسع تأبى الغرق، لم يكن هم تلك الصغيرة اللعب في البراري فحسب، بل كانت تجيد كتابة الخواطر وكل ما كان يمضي في مخيلتها الصغيرة عن الجمال والطبيعة والحقول الشاسعة.
لقد استهوى منظر الطبيعة الجميل رؤى التي خرجت لاستنشاق الهواء العليل، فراحت تجري هنا وهناك، تارة تقطف زهرة، و أخرى تلاحق فراشة زاهية الألوان.
لقد كان بلدها بلدا غنيا مما جعل بعض حكام البلدان المجاورة يسعون لاختلاله و سلب ثرواته الغالية، إلى أن جاء اليوم الذي حامت الطائرات فيه في سماه الزرقاء المليئة بمشاعر الصفاء المرسومة في الغيوم البيضاء التي لطخها دخان العدو الغاصب، و بدأ القصف… و كانت تلك اللحظة من أسوأ اللحظات في حياة الصغيرة البريئة التي لم تعرف معنى و لا لونا للحروب في حياتها التي لم تبلغ سوى الحادي عشرة. لقد كانت القذائف يومها كأوراق الشجر الصفراء في يوم من أيام الخريف العابس، لقد انهارت في لحظات الظلام تلك كل أحلام و آمال الصغيرة في الحياة و النجاة ، إلا أن صوتا ناداها "رؤى، تعالي هنا، لا تبقي في ذلك المكان فهذا خطر عليك". وفعلا لبت النداء ونجت من الموت المؤكد، و إذ به جدها الذي وجد ملجأ لينجو بنفسه فصودف برؤية حفيدة ترتعش كريش الشجر في يوم عاصف لرؤيتها القذيفة متجهة صوبها، فبدأت ببساطة تردد كلمات خطرت ببالها فجأة،وكانت كلما زادت حرفا أو نفسا واحدا زاد حزنها و أساها على بلدها وانهمرت الدموع على وجنتيها اللتين تحولتا إلى اللون الأصفر من كبر الصدمة.
ومرت أيام والبلد على ذلك الحال، و مرت الأشهر و حالما هدأت الأوضاع قرت عائلة رؤى الرحيل و ذهبت الصغيرة معهم غصبا عنها، فهي كانت ترفض كليا فكرة ترك الأرض ،غير أن والدتها طمأنتها بأنهم سيعودون حالما تتحرر الأرض، فقطعت الفتاة العهد على نفسها بأنها ستكافح كما يكافح المحاربون هناك و يحترقون في لجج جحيم الحرب المندلعة، حتى ولو كان ذلك بالريشة و الحبر، و بعد استقرار العائلة في بيت صغير اختارت رؤى غرفة صغيرة بها نافذة أشبه بالكوة لضيق أبعادها
و لكن حجمها غير مهم ما دامت تستطيع رؤية القمر و بدأت تكتب و تخرج مشاعرها التي تخالجها تجاه بلدها الأم فقالت بخط قلمها" جلست يوما عند شرفة غرفتي ، أكتب خواطري تحت ضوء القمر الجذاب، ففوجئت بصورة بلدي ،يطلب مني العون و الكفاح.." ولكن الفتاة الرقيقة لا تستطيع أن تخفي مشاعرها الغالية تجاه بلدها، فراحت تبكي وتبكي إلى أن غلبها النوم فنامت. ومرت السنون تتلوها سنين، وكتب للفتاة أن تشتهر بما كتبته في صباها في ذلك البلد الغريب، وصارت تشارك في مسابقات إلى حد وصولها للعالمية، و صار صداها يردد في كل مكان و بصوت عال و يتغنى بقصائدها عن الحنين للوطن والجمال والآمال، و بفضل كلماتها المعبرة و القوية، تمكنت من دخول قلوب الكثير من سكان بلادها في المهجر،فأثرت فيهم ودفعتهم للعودة للأرض و الكفاح بالدم والأرواح من أجل استعادت حقوقهم. وفعلا، فقد قامت ثورة عارمة دفع خلالها الكثير من الناس أرواحهم فداء للأرض ، واستعاد الوطن حريته، و عاد المهاجرون إليه رافعين رايات الضفر بالنصر. و سعدت رؤى أيما سعادة، وما عادت تبكي بكاء الرضيع العطشان وإنما أكملت دربها ككاتبة، و أخيرا صار بوسعها رؤية حقول موطنها الخضراء يوميا و تمكنت من رؤية القمر من نافذتها من جديد.
و هكذا فإن الأمل يحيي فينا الأحلام، و إذا تمسكنا بأحلامنا و أمانينا فإنها ترتقي صوب التحقيق.