مشيت مع الزمن ومضيت إلى الأمام ظانة أنني قد ابتعدت عن آلام الماضي ودمعاته الجارحة لخاطر المرئ حين يراها،فإذ بي قد وقفت أمامها من غير قصد حين عبرت على معبر الظلام فسحبتني إليها، وحين حاولت المقاومة شدتني بقوة لم أتمكن من مجاراتها، فأرهقت وانهرت لكنني لم أستسلم في داخل قلبي فلدي مستقبل...
حين خارت قوتي بدأت تلك الدمعات المنسابة من عيون الماضي المحمرة من كثرة البكاء بسحبي إلى عالمها بهدوء وتغرقني بصمت في بحرها السفلي الذي لم أكن أحس به رغم أنه كان متواجدا في داخلي وكياني، وشلت حركتي، لم يتبق في سوى الأعين المغرقة في لجة حزن آسرة تتلفت هنا وهناك، فلا ترى سوى ظلام يبثه ظلام آخر أكبر، وأحيانا تسمع أنين الأحلام التي محقت وأهملت في أدراج اليأس، وحين أحاول النظر إلى الأعلى أرى نورا باهتا وبعيدا، وحين أدقق أرى غابة كاملة من الأحلام الجديدة لكنها بعيدة المنال، وقيود الماضي الصدأة تكبلني فليس لي مفر منها...
وتبقى تجني تلك الدمعات المنسابة من أعين الماضي، فأرى أطياف الذكريات تسبح في الجو المظلم، فتبث نورا لايكاد ينير مكان تواجده... وحين أحاول الصراخ أجد صوتي قد غاب فأحاول أن أميء بعيني فتداهمني أشباح الذكريات السوداء المظلمة، وتطمس نور عيني فأغمظهما وأكاد أوقن أنني قد غبت في عالم آخر مليء بالحزن والأسى ولكنني أسمع صوتا خافتا جدا يناديني ويحاول تشجيعي لأتماسك وأخرج عن سلطة ذلك العالم ولكن دون جدوى فمحاولات صوت آمالي قد ضاعت...
بدأ قلبي يصنع راية الإستسلام، وبدأت مفكرتي تتآكل فأحسست أن جسدي قد بدأ يتلاشى فلم أعد أحس بقدمي، وتخيلت بعيني اللتان أعمتهما أشباح الذكريات صورة وهمية لما حولي: أنين وألم وجفاء وحزن يتلوه يأس طاغ ، لم أحتمل قسوة كل ذلك ففتحت عيني المذبلتين واستمعت إلى ما قالته لي أفكاري المتبقية والتي لم ينهشها الظلام، فتقرر لي ألا أستسلم، فاستجمعت ما تبقى لي من قوة وحطمت قيود الظلام، فاختفت عني حالة الشلل تلك وعاد النور إلى عيني، فلم أملأهما بتلك المناظر القاسية السوداء، وتوجهت حالا إلى تلك الأشباح التي أعمتني،وإلى تلك الدموع المنسابة من عيني الماضي التي أعرقتني، فإذ بها قد تصورت بصورتي وعكستني على مرآة الواقع، فرأيت نفسي مضرجة بدماءي المنسكبة من طعنة بداخل ذاكرتي المسودة الغارقة في لجة آلام الماضي،فالتفت وابعدت ناظري عن تلك المرآة الكاذبة، ووجهت نظرة تحد وأمل، لا نظرة حقد ونقم إلى تلك الأشباح اللعينة، وخاطبتها بلغة الأعين أن أيامها قد ولت فلتعد نفسها للنهاية الأزلية...
بقيت تلك الأشباح الغبية تحدق بي ثم همت بالهجوم، فأعددت نفسي للقاءها، وحالما وصلت إلي شهرت بوجهها سيف أملي وأحلامي، وبضربة واحدة قضيت عليها، واسطنعت لي من ذاك الأمل الجريء أجنحة بها طرت وخرجت من تلك البوابة الظلماء إلى غابة الأحلام البريئة...
فتحت عيني حين سقط الدفتر من يدي وسقطت بدوري عن السرير، فأيقنت أن كل ما جرى معي ما هو إلا حلم آخر مزعج، حظر بسبب تفكيري المتواصل بالماضي، فسارعت إلى إغلاق تلك المفكرة خوفا من أن تتسرب بعض من إشعاعات تلك الدموع المنسابة من أعين الماضي المحمرة، وهرولت إلى إخفاءها بالدرج وإقفاله بالمفاتيح قبل أن تحصل الكارثة، وتؤول الأمور إلى ما آلت إليه في حلمي المزعج! ثم شربت كأسا من الحليب ليهدئ أعصابي وقررت ألا أعبر المعابر المظلمة بعد الآن!